الخميس، مارس 17، 2022

الأديب الملتزم بالدقة!

 في قاعة دراسة مقرر الأدب السعودي التقيت بأستاذي الدكتور محمد القسومي، كان يحدثنا عن بدايات الأدب السعودي ومراحله التاريخية وبيئاته، ومن خلال عرضه الهادئ في قاعة الدرس، وحماسه في إبراز أهم مراحل الأدب السعودي وفنونه، وأنه لا يقل عن الآداب العربية في أقطارها المختلفة، تغيرت لدي ولدى جميع الطلاب النظرة المسبقة عن الأدب السعودي، وكان حماسه في عرض إنتاج الأدباء السعوديين ملهمًا لدراسة الأدب السعودي؛ مما دفعني للبحث في المقرر عن الأدب الحديث في حائل، كانت كلماته التحفيزية ملهمة ووافرة، وجهني للمصادر والمراجع المهمة والدافعة للنظر في الأدب السعودي الفصيح بحائل، ومن ثم التعرف على شخصية الأستاذ الملهمة والمحفزة بأسلوب يملؤه الأدب والاحترام.



وفي مقرر التحرير العربي كانت قضية الكتابة الصحيحة ينظر لها بأنها مهمة وضرورية، لكن مع الأستاذ يتضح للجميع ولعه وشغفه بالتحرير؛ لأنه يعشق الكتابة الصّحيحة السليمة ويؤمن بأهميتها وأهميّة معرفة الأساليب والصياغة الأدبية، ومعرفة استخدامات علامات الترقيم المتعددة بأماكنها الصحيحة داخل النص؛ مما أكسبه مهارة عظيمة في اكتشاف الأخطاء الإملائية، وتصويب الأساليب بشكل يجعل الطلاب يؤمنون بأهمية الكتابة الصحيحة وجمال الأسلوب الذي ينبع من شخصيته الجميلة الملتزمة.

كانت محاضراته سمة في الالتزام والدقة في عرض وجهات نظر الطلاب والاستماع لهم، ودافعة للبحث والنظر، وفي أثناء عملي معه عرفت عن الأستاذ اهتمامه وحرصه على الانضباط والالتزام؛ مما أكسب القسم في فترة ترؤسه العديد من الإنجازات؛ حيث وضع اللبنات الأولى لحصول القسم على جائزة المركز الأول للتميز في خدمة المجتمع بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، كما حصل على الإشادات العلمية لتميز مؤتمر الأدب في مواجهة الإرهاب في الأعمال الأدبيّة الذي قام بإدارته بنجاح، وكذا نجاحه الكبير لتميز مجلة قوافل الصادرة عن النادي الأدبي بالرياض الذي يترأس تحريرها.

وقد لمست التزامه وأدبه – أكثر – في أثناء عملي معه في مدونة قرارات اللغة العربية في المملكة العربية السعودية التي صدرت عن مركز الملك عبدالعزيز الدولي لخدمة اللغة العربية، والذي يُعنى بجمع قرارات اللغة العربية وتعاميمها وأنظمتها ولوائحها ورصدها على المستوى المحلي، بالتعاون والتواصل مع مختلف القطاعات في الوزارات والهيئات والمؤسسات المتعددة في المملكة العربية السعودية؛ حيث عرفت دقته وأسلوبه الجميل في التواصل مع فريق العمل وتنظيم المهام بشكل جميل يُشعر الجميع بأهميتهم وأهميّة أدوارهم؛ مما أكسب هذا العمل النجاح.

النماذج الناجحة التي تترك أثرًا طيبًا في الجميع دائمًا ما تكون بعيدةً عن التصنّع والمثالية المبالغة؛ لذلك فالدكتور محمد القسومي حفظه الله كانت تصرفاته نابعة عن سجيّة وطبع فطريٍّ، وأحاديثه يكسوها جمال أسلوبه السمح، وقد كان بالفعل متخلقًا بتخصصه (الأدب)، مع الجدية العلمية والالتزام الإداري الناجح.

** **



أ.أحمد المخيدش الشمّري - قسم الأدب - جامعة الإمام
رابط المقال:
الأديب الملتزم بالدقة!

الثلاثاء، فبراير 23، 2021

ماريو فارغاس يوسا: لماذا نقرأ الأدب؟

 دائمًا ما يأتيني شخص حينما أكون في معرض كتاب أو مكتبة، ويسألني توقيعًا. إما لزوجته أو ابنته أو أمه أو غيرهم، ويتعذر بالقول بأنها ” قارئة رائعة ومحبة للأدب”. وعلى الفور أسأله: “وماذا عنك؟ ألا تحب القراءة؟”، وغالبًا ماتكون الإجابة: “بالطبع أحب القراءة، لكني شخص مشغول طوال الوقت.”. 


سمعت هذا التعبير عدة مرّات، هذا الشخص وبالطبع الآلاف منهم لديهم أشياء مهمة ليفعلوها، التزامات كثيرة ومسؤوليات أكثر في الحياة، لذلك لايستطيعون إضاعة وقتهم الثمين بقراءة رواية، أو ديوان شعر، أو مقال أدبي لساعات. استنادًا إلى هذا المفهوم الواسع، قراءة الأدب هي نشاط كمالي يمكن الاستغناء عنه، لاشك بأنه يهذب النفس ويزودها بالأخلاق الحميدة وبالإحساس بمن حولها، لكنه في الأساس ترفيه، ترف للأشخاص الذين يملكون وقت فراغ. هو شيء يمكن وضعه بين الرياضات أو الأفلام أو لعبة شطرنج؛ وهو نشاط يمكن أن نضحي به دون تردد حينما نرتب “أولوياتنا” من المهام والواجبات التي لايمكن الاستغناء عنها في سعينا الحياتي الشاق.

يبدو بشكل واضح أن الأدب شيئًا فشيئًا يتحول إلى نشاط نسوي. في المكتبات، وفي المؤتمرات الخاصة بالكتّاب، وحتى في كليّات العلوم الإنسانية، نرى بوضوح أن النساء أكثر من الرجال. وهذا الأمر يُفسَّر عادةً أن نساء الطبقة المتوسطة يقرأن أكثر لأنهن يعملن لساعاتٍ أقل، لذلك يستطيع العديد منهن تخصيص وقت أكثر من الرجال لقراءة الكتب التخييلية والتفرغ للوهم. وأنا – بشكل ما – أتحسس من التفسيرات التي تفصل النساء والرجال بتصنيفات جامدة، وتنزع لكل من الجنسين طبعه الخاص ونتائج تترتب من هذه الطباع. لكن مما لا شك فيه أن قراء الأدب في تناقص، وأن غالبية الباقين من القراء هن نساء.

هذا الأمر يحدث في كل مكان تقريبًا، في إسبانيا – على سبيل المثال – كشفت إحصائية حديثة أقامها اتحاد الكتاب الإسبان أن نصف السكان لم يقرأوا كتابًا من قبل. وكشفت أيضًا أن ضمن الأقلية التي تقرأ، النساء اللاتي يقرأن يتعدين الرجال بنحو 6.2%، وهذا الفارق يزداد مع الوقت. أنا سعيد من أجل أولئك النسوة، لكني أشعر بالأسف للرجال، وللملايين ممن يستطيعون القراءة لكنهم اختاروا أن لايقرأوا.

هم يستحقون الشفقة ليس فقط لأنهم يجهلون المتعة التي تفوتهم، بل أيضًا لأني مقتنع بأن مجتمعًا بلا أدب أو مجتمعًا يرمي بالأدب – كخطيئة خفيَّة – إلى حدود الحياة الشخصية والإجتماعية هو مجتمع همجي الروح، بل ويخاطر بحريته. أود أن أطرح تفنيدات لفكرة أن الأدب نشاط للمترفين، وعرضه كنشاط لايستغنى عنه لتشكيل المواطنين في مجتمع حديث وديمقراطي، مجتمع مواطنين أحرار.

نحن نعيش في عصر تخصص المعرفة، وذلك بفضل التطور الهائل للعلوم والتكنولوجيا، وبفضل تقسيم المعرفة إلى وحدات صغيرة وعديدة. وهذا الاتجاه الثقافي سيستمر بالنمو لسنوات قادمة. للتأكيد، فإن التخصص له منافع عديدة. فهو يسمح باكتشاف أعمق وتجارب أعظم وأكبر، وهو محرك التقدم. غير أن له أيضًا عواقبه السلبية. فهو يمحي الصفات الفكرية والثقافية بين الرجال والنساء، والتي تسمح لهم بالتعايش، والتواصل، والإحساس بالتضامن فيما بينهم. التخصص يؤدي إلى نقص في الفهم الاجتماعي، يؤدي إلى تقسيم البشر إلى جيتو1 من التقنيين والأخصائيين. إن تخصيص المعرفة يتطلب بالتالي لغة دقيقة ورموزًا تزداد غموضة كل مرة. وبالتالي، فإن المعلومة تصبح أكثر انفرادية وتشتتًا. هذا هو التخصيص والتقسيم الذي كان يحذرنا منه المثل القديم: “لاتركز كثيرًا على غصن أو ورقة، وتنسى أنهما جزء من شجرة. ولاتركز على الشجرة فتنسى أنها جزء من غابة”. الوعي بوجود الغابة يخلق شعورًا بالجماعة، شعور الانتماء، ذلك الذي يربط المجتمع ببعضه ويمنع تفككه إلى عدد لايحصى من الأجزاء بسبب هوس الخصوصية الأناني بالنفس. هوس الأمم والأشخاص بأنفسهم لم يخلق إلا الارتياب وجنون العظمة، وتشويهًا في الواقع هو مايولّد الكراهية، الحروب، وحتى الإبادات الجماعية.

في عصرنا الحالي، لايمكن للعلم والتكنولوجيا أن يكمل بعضهما الآخر. وذلك للثراء اللامتناهي من المعرفة وسرعة تطورها، والذي قادنا إلى التخصصات وغموضها. لكن لطالما كان الأدب وسيبقى واحدًا من القواسم المشتركة لدى التجربة البشرية، والتي يتعرف البشر من خلاله على أنفسهم والآخرين بغض النظر عن اختلاف وظائفهم، خطط حياتهم، أماكنهم الجغرافية والثقافية، أو حتى ظروفهم الشخصية. استطاع الأدب أن يساعد الأفراد على تجاوز التاريخ، كقرَّاء لثرفانتس، شكسبير، دانتي، وتولستوي. نحن نفهم بعضنا عبر الزمان والمكان، ونشعر بأنفسنا ننتمي لذات النوعية، لأن من خلال الأعمال التي كتبوها، نحن نتعلم مانتشاركه كبشر، وماالذي يبقى شائعًا فينا تحت كل الفروقات التي تفصلنا. 

لاشيء يحمي الإنسان من غباء الكبرياء والتعصب والفصل الديني والسياسي والقومي أفضل من تلك الحقيقة التي تظهر دائمًا في الأدب العظيم: أن الرجال والنساء من كل الأمم متساوون بشكل أساسي، وأن الظلم بينهم هو مايزرع التفرقة والخوف والاستغلال.

لايوجد من يعلمنا أفضل من الأدب أننا نرى برغم فروقنا العرقية والاجتماعية ثراء الجنس البشري، ولايوجد ماهو مثل الأدب لكي يجعلنا نكافئ ونمجد فروقنا بوصفها مظهرًا من مظاهر الإبداع الإنساني متعدد الأوجه. قراءة الأدب الجيد هو مصدر للمتعة بطبيعة الحال، ولكنه أيضًا تجربة لنعرف من نحن وكيف نكون، بعيوبنا وبنقصنا، من أفعالنا وأحلامنا وأشباحنا، وحيدين وفي العلاقات التي تربطنا مع الآخرين، في صورتنا العامة الظاهرة لدى الآخرين أو في تجاويف وعينا السرية.

هذا المجموع المعقد من الحقائق المتعارضة – كما يصفها أشعيا برلين – تشكل جوهرًا للحالة الإنسانية. في عالم اليوم، هذا المجموع الضخم والحي من المعرفة في الإنسان لايوجد إلا في الأدب. لم تستطع حتى فروع العلوم الإنسانية الأخرى – كالفلسفة أو الفنون أو العلوم الاجتماعية – أن تحفظ هذه الرؤية المتكاملة والخطاب الموَحَّد. العلوم الإنسانية خضعت أيضًا لتقسيم التخصصات السرطاني، وعزلت تلك التخصصات نفسها في أقسام مجزأة وتقنية بأفكار ومفرديات لايستوعبها الشخص العادي. بعض النقاد والمنظرين يودون تحويل الأدب إلى علم، وهذا ما لن يحصل أبدًا، لأن الكتابة التخيلية لم توجد لتبحث في منطقة واحدة من تجربة الإنسان. وُجدت الكتابة لكي تثري الحياة البشرية بأكملها من خلال الخيال، والتي لايمكن تفكيكها، أو تجزئتها إلى عددٍ من المخططات أو القوانين دون أن تضمحل. هذا هو معنى ملاحظة بروست حينما قال أن “الحياة الواقعية، هي آخر مايكتشف وينوَّر. وأن الحياة الوحيدة التي تعاش بكاملها، هي الأدب”. 

بروست لم يكن يبالغ، أو يعبر عن حبه لما يجيد. هو كان يقدم قناعته الخاصة بأن الأدب يساعد على فهم الحياة وعيشها بطريقة أفضل. وأن العيش بطريقة أقرب للكمال يتطلب وجود الآخرين بجانبك ومشاركتهم الحياة.

هذا الرابط الأخوي، الذي ينشأ بين البشر بسبب الأدب، يجبرهم على التحاور ويوعيهم بالأصل المشترك وبهدفهم المشترك، وبالتالي فهو يمحي جميع الحواجز التاريخية. الأدب ينقلنا إلى الماضي، إلى من كان في العصور الماضية قد خطط، استمتع، وحلم بتلك النصوص التي وصلت لنا، تلك النصوص التي تجعلنا أيضًا نستمتع ونحلم. الشعور بالانتماء لهذه التجربة البشرية التراكمية عبر الزمان والمكان هو أعظم إنجاز للثقافة، ولاشيء يساهم في تجددها كل جيل إلا الأدب.

كان بورخيس ينزعج كثيرًا كلما سُئل “ماهي فائدة الأدب؟”. كان يبدو له هذا السؤال غبيًا لدرجة أنه يود أن يجاوب بأنه “لاأحد يسأل عن فائدة تغريد الكناري، أو منظر غروب شمس جميل.”. إذا وُجد الجمال، وإذا استطاع هؤلاء ولو للحظة أن يجعلوا هذا العالم أقل قبحًا وحزنًا، أليس من السخف أن نبحث عن مبرر عملي؟ لكن السؤال جيد بالفعل. لأن الروايات والأشعار لا تشبه بأي حال تغريد الكناري أو منظر الغروب، هي لم توجد عن طريق الطبيعة أو المصادفة، هي إبداعات بشرية. ولذلك فمن اللائق أن نسأل كيف ولماذا أتت إلى العالم، مافائدتها ولماذا بقت كل هذه المدة.

تأتي الأعمال الأدبية – في البداية كأشباح بلا شكل – أثناء لحظة حميمية في وعي الكاتب، ويسقط العمل في تلك اللحظة بقوة مشتركة بين كل من وعي الكاتب، وإحساسه بالعالم من حوله، ومشاعره في ذات الوقت. وهي ذاتها تلك الأمور التي يتعامل معها الشاعر أو السارد في صراعه مع الكلمات لينتج بشكل تدريجي شكل النص، إيقاعه، حركته وحياته. حياة مصطنعة، وللتأكيد، هي حياة مُتخَيلة، صنعت من اللغة، وحتى الآن يسعى الرجال والنساء لتلك الحياة، بعضهم بشكل متكرر، والبعض الآخر بشكل متقطع، وذلك لأنهم يرون أن الحياة الواقعية لاترقى لهم، وغير قادرة على تقديم مايريدون. لاينشأ الأدب من خلال عمل فردٍ واحد، بل يوجد حينما يتبناه الآخرون ويصبح جزءًا من الحياة الإجتماعية عندما يتحول، وبفضل القراءة، إلى تجربة مشتركة.

أحد منافع الأدب للشخص في المقام الأول تكمن في اللغة. المجتمع الذي لايملك أدبًا مكتوبًا يعبر عن نفسه بدقة أقل، وأقل وضوحًا من مجتمع يحمي طريقة التواصل الرئيسية له، وهي الكلمة، بتحسينها وتثبيتها عن طريق الأعمال الأدبية. إنسانية بلا قراءة، ولايصاحبها الأدب ستنتج ماهو أشبه بمجتمع صم وبكم، ناقص الفهم وذلك لعلته اللغوية. وسيعاني من مشاكل هائلة في التواصل نظرًا للغته البدائية. وهذا يقع على مستوى الأفراد أيضًا، فالشخص الذي لايقرأ، أو يقرأ قليلًا، أو يقرأ كتبًا سيئة، سيكون لديه عائق: ستجده يتحدث كثيرًا ولكن المفهوم قليل، لأن مفرداته ضعيفة في التعبير عن الذات.

وهذا الأمر لا يعني وجود قيد لفظي فقط، ولكن أيضًا وجود قيد في الخيال والتفكير. هو فقر فكري لسبب بسيط، لأن الأفكار والتصورات التي يمكن من خلالها فهم حالاتنا لايمكن لها التكون خارج الكلمات. نحن نتعلم كيف نتحدث بعمق وبدقة وبمهارة من الأدب الجيد. لن يجدي أي انضباط آخر في أي فرع من فروع الفن ماعدا الأدب في صناعة اللغة التي نتواصل بها. أن نتحدث جيدًا، أن يكون تحت تصرفنا لغة ثرية ومنوعة، أن نجد التعبير الملائم لكل فكرة ولكل شعور نود أن نتواصل به، يعني بالضرورة أن تكون جاهزًا للتفكير، أن تُعلم، أن تتعلم، أن تناقش، وأيضًا لأن تتخيل وتحلم وتشعر. بطريقة خفية، تردد الكلمات صداها في جميع أفعالنا، حتى تلك الأفعال التي لايمكن أن نعبر عنها. وكلما تطورت اللغة، وذلك بفضل الأدب، ووصلت لمستويات عالية من الصقل والأخلاق، زادت من مقدرة الإنسان على عيش حياة أفضل.

عمل الأدب حتى على صبغ الحب والرغبة والجنس بصبغة الإبداع الفني. لم يكن الشبق ليوجد بدون الأدب. الحب والمتعة سيكونان أسوأ بحيث ينقصهما الرقة والروعة. سيفشلان في تحقيق الحالة القصوى التي يمنحها الأدب. لذلك فإني لا أبالغ حينما أقول أن الثنائي الذي يقرأ لغارثيلاسو، بترارك، جونجورا أو بودلير يقدران المتعة ويعيشانها بخلاف الثنائي الذي صار أبلهًا بمشاهدة الأوبرا الصابونية2 في التلفاز. في عالمٍ أمي، لن يتعدى الحب والرغبة ماترضى به الحيوانات، كما أنها لن تتجاوز الوفاء بالأساسي من الغرائز.

وبطبيعة الحال، لايمكن لوسائل الإعلام السمعية والبصرية أن تعلم الناس كيف يستخدمون الإمكانيات الهائلة للغة بمهارة وثقة. على النقيض من ذلك، تعمل وسائل الإعلام على الحط من قدر الكلمة إلى منزلة أقل بجانب الصورة، والتي تعد اللغة البدائية لتلك الوسائط، وتعمل أيضًا على تقييد اللغة بالتعبير الشفوي إلى الحد الذي لايمكن الاستغناء عنه بعيدًا عن البُعد الكتابي للغة. أن تصف فيلمًا أو برنامجًا تلفزيونيًا بالأدبي فهذه مجرد طريقة لبقة عوضًا عن وصفه بالممل. لهذا السبب، من النادر أن نرى العامة ينجذبون لمثل هذه البرامج. وحسب ماأعرف، فإن الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة هو برنامج بيرنارد بيفوت3 “فواصل عليا” في فرنسا. وهذا يقودني إلى الاعتقاد بأن الأدب ليس فقط متطلَّبًا لمعرفة كاملة باللغة واستخدام أكمل لها، بل أن مصيرها مرتبط بشكل لاينفصل بمصير الكتاب، ذلك المنتج الصناعي الذي يعتبره الكثيرون بأنه قد عفا عليه الزمن.

هذا الحديث يقودني إلى بيل جيتس، كان في مدريد منذ فترة ليست بالطويلة وزار الأكاديمية الملكية الإسبانية، والتي قد عقدت شراكة مع مايكروسوفت. ضمن أشياء أخرى، طمأن جيتس أعضاء الأكاديمية وأكد بأن الحرف “fl” لن يحذف من برامج الحاسب، كان ذلك الوعد يكفل لأربعمائة مليون متحدث بالإسبانية أن يتنفسوا الصعداء بما أن حذف حرف أساسي مثل هذا سيؤدي إلى مشاكل كبرى. على كل حال، بعد تنازله الودي للغة الإسبانية، أعلن جيتس قبل أن يغادر مقر الأكاديمية في مؤتمر صحفي أنه يتوقع تحقيق حلمه الأكبر قبل أن يموت، وهو وضع حد للورق، ومن ثم للكتب.

يرى جيتس بأن الكتب هي أشياءٌ عفا عليها الزمن. وقال بأن شاشات الكمبيوتر قادرة على القيام بمهمات الورق الذي يستطيع عملها. أصر أيضًا أنه بالإضافة إلى كونها أقل مشقة، فشاشات الكمبيوتر تأخذ مساحة أقل، وهي أسهل للتنقل، وأيضًا بأن نقل الأخبار والآداب إلى هذه الشاشات سيكون له فائدة بيئية لإيقاف تدمير الغابات، وأن صناعة الورق هي أحد أسباب التدمير. أكد أيضًا بأن الناس سيستمرون بالقراءة، لكن على شاشات الكمبيوتر، وبالتالي سيكون هناك المزيد من الكلوروفيل في البيئة.

لم أكن حاضرًا خلال خطاب جيتس، وعلمت بكل هذه التفاصيل عن طريق الصحافة. ولو كنت هناك، لأعلنت استهجاني لجيتس كونه قد أعلن بوقاحة نيته إرسالي أنا وزملائي الكتّاب إلى خط البطالة. ولكنت تنازعت معه بقوة بخصوص تحليله. هل تستطيع الشاشة حقًا استبدال الكتاب من جميع الجوانب؟ أنا لست متأكدًا. أنا واعٍ تمامًا للتطور الهائل الذي سببته التكنولوجيا الجديدة في مجال الاتصالات وتبادل المعلومات، وأعترف بأن الانترنت يؤدي لي مساعدة لا تقدر بثمن كل يوم في عملي؛ لكن امتناني لهذه الراحة لايتضمن اعتقادًا بأنه يمكن للشاشات الإلكترونية أن تستبدل الورق، أو أن القراءة بالكمبيوتر يمكن أن تفي للقراءة الأدبية. هذه فجوة لاأستطيع تخطيها. لاأستطيع قبول فكرة أن تحقق القراءة غير الوظيفية، التي لانبحث بها عن معلومة أو تواصل سريع، توفر نفس تلك الأحلام ومتعة قراءة الكلمات مع نفس الإحساس بالحميمية، ومع نفس التركيز العقلي والعزلة الروحية التي يمنحها الكتاب.

ربما يصدر تحيزي هذا لكوني لم أمارس القراءة الالكترونية، وكوني تعاملت بعلاقة أدبية طويلة مع الكتب والورق. لكني على الرغم من أني أستمتع بتصفح أخبار العالم من خلال الانترنت، لايمكن أن أذهب للشاشة لكي أقرأ شعرًا لجونجورا، رواية لأونيتي أو مقال لباز، لأنني موقن بأن أثر تلك القراءة لن يكون مثل القراءة بالورق. أنا مقتنع، بالرغم من أني لاأستطيع إثبات ذلك، بأن مع اختفاء الورق سيعاني الأدب من ضربة مهولة، وربما مميتة. كلمة “أدب” لن تختفي بالطبع، لكنها ستدل على نصوص هي بعيدة عما نسميه أدبًا هذه الأيام، كبعد الأوبرا الصابونية عن مسرحيات سوفوكليس وشكسبير.

لايزال هناك سببٌ آخر لمنح الأدب منزلته الهامة في حياة الأمم. بدون الأدب، سيعاني العقل النقدي، وهو المحرك الحقيقي للتغيير التاريخي والحامي الأقوى للحرية، من خسارة لاتعوض. هذا بسبب أن الأدب الجيد كله متطرف، ويطرح أسئلة حادة عن العالم الذي نعيشه. في كل النصوص الأدبية العظيمة، وغالبًا دون قصدٍ من الكتّاب، توجد نزعة تحريضية.

الأدب لايقول شيئًا لمن هم راضون بما لديهم، لمن يرون الحياة بما يعيشونها الآن. الأدب هو قوت الروح المتمردة، هو إعلان عدم الانقياد، هو ملجأ لمن لديهم القليل جدًا أو الكثير جدًا في الحياة. الشخص منا يبحث عن ملاذه في الأدب حتى لا يكون هادئًا ومطمئنًا. أن تركب جنبًا إلى جنب مع ذلك السائس الهزيل وذلك الفارس المرتبك في حقول لامانشا، أن تبحر على ظهر حوت مع الكابتن آيهاب، أن تشرب الزرنيخ مع إيما بوفاري، أن تتحول إلى حشرة مع غريغور سامسا، هذه كلها طرقٌ اخترعناها لنجرد أنفسنا من أخطاء وإملاءات هذه الحياة الظالمة، هذه الحياة التي تجبرنا دائمًا أن نكون الشخص نفسه بينما نتمنى أن نكون مختلفين لكي نرضي رغباتنا التي تتملكنا.

يهدئ الأدب هذا الاستياء الحيوي للحظات، لكن في هذه اللحظات الخارقة، في هذا التعليق المؤقت للحياة، هذا التوهيم الأدبي ينقلنا لخارج التاريخ، ونصبح مواطنين لأرض لا تنتمي للزمان، وبالتالي هي أرض خالدة. فنصبح أكثر حساسية، وثراء، وأكثر تعقيدًا وسعادة، وأكثر وضوحًا مما نحن عليه في حياتنا الرتيبة. عندما نغلق الكتاب ونتخلى عن الخيال الأدبي، نعود إلى وجودنا الفعلي ونقارنه بالأرض المذهلة التي غادرناها توًا. وياللخيبة التي تنتظرنا! لكن هناك إدراكًا هائلًا ينتظرنا، وهي أن الحياة المتخيَّلة من الرواية أجمل وأكثر تنوعًا، أكثر فهمًا وأقرب للكمال من الحياة التي نعيشها ونحن واعون، تلك الحياة التي تحدها الظروف وضجر الواقع. بهذه الطريقة، نرى الأدب الجيد الحقيقي دائمًا كهدام، كمتمرد، كمقاوم، هو تحدٍ لما هو موجود.

كيف لايمكن أن نشعر بالخداع بعد قراءة “الحرب والسلام” أو “البحث عن الزمن المفقود” ونعود إلى عالمنا ذو التفاصيل التافهة، عالم مليء بالحدود وبالموانع التي تقف بانتظارنا في كل مكان وفي كل خطوة لتفسد خيالنا؟ فوق مهمته لاستمرارية الثقافة ولإثراء اللغة، أكبر مساهمة للأدب في التقدم البشري (دون قصد، وفي معظم الحالات) هي تذكيرنا بأن العالم جُعل سيئًا، وأن من يدعي العكس من الأقوياء والمحظوظين يكذب، وأن الكلمة يمكن أن تُطوَّر وتكون أقرب للعوالم التي يستطيع خيالنا ولغتنا تشييدها. المجتمع الحر والديمقراطي يجب أن يحتوي مواطنين واعين بالحاجة المستمرة للكلمات التي نعيشها ونحاول – بالرغم من أن المحاولة تكاد تكون مستحيلة – أن نجعلها تشبه العالم الذي نود أن نعيشه. وليس هناك من وسيلة أفضل من قراءة الأدب الجيد لإثارة عدم الرضا عما يوجد، وتكوين مواطنين ناقدين ومستقلين عمن يحكمهم، ويمتلكون روحية دائمة وخيالًا نابضًا.

مع ذلك، أن يُسمى الأدب بالتحريض لأنه يحسس وعي المواطن لعيوب العالم لا يعني بالضرورة – كما يبدو أن الحكومات والكنائس تفكر، ولذلك أنشأت الرقابة – أن النصوص الأدبية ستثير اضطرابات اجتماعية أو تسرع نشوء ثورات. لايمكن التنبؤ بالتأثير الاجتماعي والسياسي لقصيدة أو رواية أو مسرحية، لأنها لم تصنع بشكل جماعي من عدة خبراء. تصنع هذه الأعمال من قِبل أفراد وتُقرأ من قِبل أفراد ممن تختلف استنتاجاتهم بشكل كبير عندما يكتبون أو يقرأون. لذلك من الصعب، بل من المستحيل، أن تنتج أنماطًا وردود أفعال دقيقة. فضلًا عن ذلك، قد تكون القيمة الجمالية لعمل أدبي ما سببًا في حدوث القليل من العواقب الاجتماعية. هناك رواية متواضعة4 لهارييت ستاو يبدو أنها لعبت دورًا حاسمًا في تنبيه الوعي السياسي والاجتماعي لفظاعات العبودية في الولايات المتحدة. إذًا، واقع ندرة تأثيرات الأدب لايعني أنها ليست موجودة. مايجب أن نعرفه هو أنها آثار صنعت من قِبل مواطنين تغيرت شخصياتهم جزئيًا بسبب الكتب.

فلنعد صياغة التاريخ بلعبة رائعة. ولنتخيل عالمًا بدون أدب، إنسانية لم تقرأ الشعر ولا الروايات. في هذا النوع من الحضارات الضامرة، بقواميسها الهزيلة التي تحفل بالآهات وإيماءات القرود على حساب الكلمات، من المؤكد أن بعض الصفات لن توجد. وتشمل تلك: حالم دونكيخوتي، مأساوي كافكاوي، سوداوي أورويلي، ساخر رابيلي، سادي، ماسوشي، وكلها ذات أصول أدبية. وللتأكد من ذلك، سيبقى لدينا مجانين، وضحايا جنون عظمة واضطهاد، وأشخاص بشهوة عادية وتجاوزات فاحشة، وأناس منحطين لدرجة الحيوانات يستمتعون بتلقي الألم وتسليطه. لكننا لن نستطيع أن نرى ماهو خلف هذه السلوكيات المتطرفة المحظورة من قبل قواعد المجتمعات، تلك الخصائص الأساسية في الإنسان، لم نكن لنرى السمات الخاصة بنا؛ لذلك نحن مدينون لمواهب ثيرفانتس، كافكا، أورويل، رايبليه، دو ساد، و ماسوش لأنهم استطاعوا كشفها لنا.

عندما ظهرت رواية “دون كيخوته دي لامانشا”، سخر قراءها الأوائل من هذا الحالم المتطرف كما سخرت منه بقية الشخصيات في تلك الرواية. اليوم، نحن نعرف أن إصرار ذلك الفارس ذو الوجه الحزين على رؤية عمالقة بينما كان هناك طواحين هواء، وعلى التصرف بطريقة تبدو سخيفة، هو الشكل الأعلى للكرم، وهو تعبير عن مظاهرة تجاه بؤس هذا العالم على أمل تغييره. مفاهيمنا عن المثالية والمثاليين تفوح بمعانٍ إيجابية ثانوية، لن تكون ماهي عليه، ولن تُحترم وتكون واضحة، لو لم تجسد في بطل الرواية بتلك القوة المقنعة لثيرفانتس العبقري5. يمكن أن يقال نفس الشيء عن الأثنى الصغيرة الأقرب لدونكيخوته، إيما بوفاري، والتي قاتلت بحماس لتعيش الحياة الرائعة من الفخامة والشغف، والتي عرفتها وقرأت عنها من الروايات، كفراشة اقتربت كثيرًا من ضوء اللهب واحترقت بالنار.

تلك الإبداعات لكل أولئك الأدباء المبتكرين العظماء فتحت أعيننا على آفاقٍ مجهولة لحالاتنا البشرية، جعلتنا نستطيع اكتشاف وتفهم الهوة البشرية المشتركة. عندما نقول “بورخيسي”، فإن تلك الكلمة تستحضر فصل عقولنا عن منطق الواقع وتدخلنا إلى عالمٍ مذهل، إلى عقلية دقيقة وأنيقة، غامضة وأشبه بالمتاهة بكل تلك المراجع والإشارات الأدبية، والتي لانشعر بالغرابة تجاه شخصياتها لأننا نتعرف فيها على رغباتنا الخفية وحقائقنا الحميمة الخاصة بشخصياتنا، والذي أخذت شكلها بفضل الإبداع الأدبي للويس خوسيه بورخيس. عندما نذكر “كافكاوي” يتبادر إلى الذهن كميكانيكية التركيز في الكاميرات القديمة، كل مرة شعرنا بها بأننا مهددون، كل مرة شعرنا بأنا أفراد لانستطيع الدفاع عن أنفسنا، بكل أجهزة السلطة القمعية التي سببت الخراب للعالم الحديث، الأنظمة السلطوية، الأحزاب العمودية، الكنائس المتعصبة، البيروقراطية الخانقة. من دون تلك القصص القصيرة والروايات لذلك اليهودي المعذَّب من براغ، الذي كتب بالألمانية وعاش دائمًا على اطلاع، لم نكن لنستطيع فهم الشعور بالعجز لدى الفرد المعزول، أو رعب الأقليات المضطهدة والتي تعاني التمييز، تلك المتواجهة مع القوة الطاغية التي يمكنها سحقهم والقضاء عليهم من دون أن يظهر الجلادون أوجههم حتى.

صفة الأورويلي، وهي الصفة الأقرب للكافكاوي، تعطي تنبيها لتلك السخافة الرهيبة، تلك السخافة التي صُنعت من قِبل الأنظمة الشمولية في القرن العشرين، الديكتوريات الأكثر توحشًا وتعقيدًا في التاريخ، في تحكمهم بأفعال وأحاسيس المجتمع. في رواية 1984، وصف جورج أورويل في جو بارد موحش تلك الإنسانية المحكومة للأخ الأكبر، الحاكم المُطلق، والذي بواسطة مزيج مخيف من الرعب والتكنولوجيا، محق الحريات والمساواة والعفوية، وحول المجتمع إلى خلية نحل من البشر. في هذا العالم الكابوسي، طوِّعت اللغة لصالح السلطة، وحُولت إلى “خطاب جديد”، خالٍ من أي ابتكار وموضوعية، ممسوخ إلى سلسلة من التفاهات التي تضمن عبودية الفرد للنظام. صحيح أن نبوءة 1984 لم تمر حتى الآن، والشيوعية الشمولية في الاتحاد السوفيتي ذهبت مع الفاشية الشمولية في ألمانيا وأماكن أخرى، وبعد ذلك بوقتٍ قصير بدأت تتداعى في الصين، وفي كوبا وكوريا الشمالية اللتين تنتميان للماضي. لكن الخطر لم يُمْح بعد، وكلمة “أورويلي” ستبقى لتصف الخطر، ولتساعدنا على فهمه. عالم من دون أدب سيبقى أعمى عن هذه الأعماق الخطرة، والتي نحتاج أن نراها في أسرع وقت.
عالم غير حضاري، بربري، يخلو من العاطفة وذو خطاب جلف، جاهل ومأساوي، من دون شغف وجلف في الحب، هذا العالم من دون أدب، هذا الكابوس الذي أحذر منه وأرسم معالمه، سيكون سمته الأساسية الانسياق وتسليم عالمي لبني البشر إلى السلطة. بهذا المنطق، سيكون عالمًا حيوانيًا. الغرائز الأساسية لدى الإنسان ستحدد مشواره اليومي باتجاه سد الجوع والشقاء لكي يبقى، ستحدده بالخوف من المجهول وإشباع الحاجات المادية. لن يكون هناك مكان للروح في هذا العالم. وفوق ذلك، رتابة العيش المسحوق ستولد الإحباط وستلقي بظلال شريرة للتشاؤم، الشعور بأن الحياة البشرية ماكان لها أن توجد، وأنها ستكون هكذا دائمًا، وأن لاأحد يمكنه تغييرها.

عندما يتخيل الواحد منا هذا العالم، تقفز إلى ذهنه تلك المجتمعات الصغيرة التي يختلط فيها الدين بالشعوذة، والتي تعيش على هامش التطور في أمريكا الجنوبية وأفريقيا وأوقيانوسيا. ولكن فشلًا مختلفًا يخطر في بالي. الكابوس الذي أحذركم منه لن يكون نتيجة قلة التطور، بل سيكون نتيجة التحديث والتطوير المفرط. نتيجة للتكنولوجيا وتبعيتنا لها، قد نتصور مجتمعًا في المستقبل وهو ممتلئ بالشاشات والسماعات، ومن دون كتب، أو في مجتمع يعتبر الكتب – وأقصد هنا الأعمال الأدبية – ماكانوا يعتبرون الخيمياء: ذلك الفضول القديم، والشيء الذي يُمارس في سراديب ومقابر حضارة الإعلام من قِبل أقلية عُصابية ومضطربة. وأخشى أن هذا العالم المعرفي، على الرغم من ازدهاره وقوته، وهذا المعيار العالي من المعيشة والإنجاز العلمي، من شأنه أن يكون غير متحضر بعمق وسيكون خالي الروح. ستكون إنسانية آلية تركت تلك الإنسانية التي تخلت عن الأدب.

ليس من المرجح، بالطبع، أن هذه اليوتوبيا المروعة سوف تأتي. نهاية قصتنا ونهاية التاريخ لم تكتب بعد، ماسيأتي لاحقًا مرهون برؤيتنا وبإرادتنا. ولكن إن أردنا أن نتجنب فقر خيالنا، ونتجنب اختفاء ذلك الاستياء الثمين الذي يهذب حساسيتنا ويعلمنا التحدث ببلاغة ودقة، فيجب أن نتصرف. وبعبارة أدق، يجب أن نقرأ.


هوامش
1- هو اسم لأحياء اليهود القديمة في أوروبا، والتي كانت توصف بالعشوائية والضيق.
2- هي مسلسلات كانت تعرض على التلفاز، سميت بالصابونية لكثرة إعلانات الصابون التي كانت تتخللها.
3- هو صحافي وإعلامي فرنسي، متخصص في تقديم البرامج الثقافية في فرنسا. ويشغل حاليًا رئاسة أكاديمية الغونكور، صاحبة أرفع جائزة أدبية فرنسية.
4- رواية “كوخ العم توم”، ترجمت للعربية عن طريق منير البعلبكي.
5- يشير يوسا هنا إلى تغير قراءة الناس للأدب عبر الزمن، فتأمل!

الرابط

ترجمة: راضي النماصيمراجعة: فيصل الحبيني

الاثنين، نوفمبر 11، 2019

عشت طفولتي في قرية شبيهة بغرناطة.. عبدالله ثقفان

تشرفت بإعداد الملف الخاص بالأستاذ الدكتور: عبدالله بن علي ابن ثقفان والذي صدر في الملحق الثقافي بجريدة الجزيرة الصادرة بالعدد  يوم السبت 

الجزيرة الثقافية - أحمد المخيدش: 
... أردنا من هذا الملف جمع آراء محبي الأستاذ الدكتور عبدالله علي ثقفان برؤاه الثقافية كي تتكامل الصورة حول أستاذنا فجاء هذا اللقاء ؛ أسئلة وإجابات ...
* بداية حدثنا عن نشأتك العلمية وكيف بدأ اهتمامك بالدراسات الأندلسية؟
- كانت البداية في أحضان قرية جنوبية (العسران - بلد بني بشر)، هي شبيهة (بغرناطة الأندلسية)، تلك المدينة الحييّة التي تحيط بها الجبال وكأنها تحرسها أو ترقبها عن بعد، وبعد مدارس القرعاوي - غفر الله له- أنشئت المدارس الحكومية الرسمية، وعندئذ كنت من أوائل طلابها، وبعدها انتقلت إلى أبها حيث المدرسة المتوسطة الحديثة الوحيدة في المنطقة الجنوبية وبعدها، ولصعوبة الحياة انتقلت مع ابن عمي الشيخ سعيد بن ثقفان غفر الله له إلى (الدمام)حيث كان يعمل كاتبًا في الحرس الوطني.
وعندها تم توظيفي في الحرس بوظيفة كاتب برتبة جندي، ثم واصلت دراستي ليلاً مع كفاحي الوظيفي حيث حل بي المقام أخيرًا كاتبًا في مكتب العمل في الدمام، وبعد الثانوية التي أخذتها بتفوق - ولله الحمد- انتقلت للرياض، حيث التحقت بجامعة الرياض بعد أن تركت الوظيفة كليًا، وتخرجت في قسم اللغة العربية كأول دفعة في هذا التخصص في كلية التربية، وكانت من أقوى الكليات علميًا، وكان تقديري بمرتبة الشرف، ثم عملت مدرسًا وعدت للجامعة بعد سنة معيدًا في قسم اللغة العربية، وواصلت دراستي حتى وصلت حتى أخذت الماجستير، فالدكتوراه، ثم مضت بي الحياة حتى وصلت إلى «الاستاذية» كأول سعودي يحصل على هذه الرتبة بالبحث والتأليف، وذلك في مجال الدراسات الأندلسية، وعندها واصلت بحثي ودراساتي حتى وصلت كتبي ولله الحمد إلى أكثر من سبعة عشر كتابًا، وكتبت أكثر من عشرين بحثًا، خلاف الكتابات التثقيفية في الصحف والمجلات غير المحكمة: كالفيصل والعربية وقوافل وخلافها، والمشاركة في البرامج الثقافية في الإذاعة والتلفزيون فضلاً عن الإشراف على الرسائل العلمية، وقراءة البحوث وتحكيمها.
بدأ اهتمامي الفعلي بالدراسات الأندلسية عندما كنت طالبًا في الجامعة، ثم نما هذا الاهتمام عندما سجلت موضوع أطروحة الماجستير وكان ذا صلة بالأندلس، إِذ كانت عن شاعر مغمور ينتمي «لجليانة» الأندلسية، ولكنه عاش بقية حياته في بلاد الشام، وفي كنف صلاح الدين الأيوبي، فكان والحال هذه يملك انتماءين، أندلسي المولد والنشأة، ومشرقي الحياة والشعر، وكان قد دون أشعاره في مجموعة دواوين وبأسماء مختلفة، وتصادف أن كان اختياري لديوانه «أدب السلوك» غير كتابه النثري الذي يحمل العنوان نفسه، وبعض الشراح يسمون الديوان باسم آخر، المهم أن هذا الديوان كان موزعًا في أرض الله، فقد أصابه ما أصاب الأندلسيين من فرقة وغنا ووصب، حيث كانت نسخة موزعة بين: (بغداد، وتركيا، وسورية، وألمانيا، وإيرلندا، وإسبانيا، ومصر، والمغرب، والرياض، والمطلوب مني جمع هذه النسخ مع البحث عن الأصل وبخط المؤلف، وإن لم يوجد فقريبة العهد منه مع تحقيقها ودراستها.
كان الموضوع في حد ذاته يمثل معاناة، ولكن القسم الذي انتمي إليه وجهني صوب الأندلس فما كان مني الاستسلام على الرغم من ضعف بضاعتي خاصة في مجال التحقيق، الذي لا أعرف منه سوى مادة عابرة مرت بي في مرحلة الدراسات العليا أو أنا مررت بها.
المهم بدأت في المعترك، وكنت وقتها أعد الدراسة شرفًا ينبغي ألا أتنازل عنه، أو لا أفشل فيه، بل ينبغي الكفاح والدرس بجد وعندما جمعت النسخ من أطراف الدنيا، بعد أن أعانتني الجامعة على ذلك، ثم بدأت التحقيق والدراسة بعد إرشاد استاذي القدير المشرف على الرسالة، وكأن الجامعة والمشرف قد رمتني ورماني في بحر لجي، وعلي السباحة والنجاة، وإلا فالغرق والفشل. وهذا هو الدرس الصحيح الذي ينبغي أن يُعامل به طلاب الدراسات العليا، لأن المسؤولية على الطالب لا على الجامعة خاصة في هذا الميدان، وإلا فكيف تعلمه وتخرجه؟
نلت الماجستير بعد رحلة عناء مع الدرس والتحقيق مع قلة الإمكانات ولكن في وقت وجيز، بعدها زاد تعلقي بالأندلس عندما سجلت موضوع الدكتوراه، وكان ذا شمولية في ميدان البحث، إِذ جعلني أقف على الأندلس: أرضًا، وناسًا، وفكرًا، ثم تحول هذا التعلق والاهتمام بالأندلس إلى حب تمثل في عمل لأكثر من أربعين سنة بين تدريس وتأليف وبحث، وإبداء رأي، ومشورة، وإشراف.. إلخ ذلك.
* هل زرت إسبانيا؟ وما الانطباع الذي تركته دراساتك وقراءاتك الأدبية عن الأندلس عندما زرتها؟
- لقد فرض البحث العلمي علي زيارة إسبانيا زيارة فعلية بقصد البحث عن أدب وفكر أهل الأندلس، لا عن الإسبان ولا عن أدبهم، فكانت هذه الزيارة مزرعة للألم بعد الشعور بالفقد، وعندها تذكرت ما قاله ابن خفاجة الأندلسي وهو قول قد انطبق على هذه الأيام والواقع بعده:
أرض تقاذفت الخطوب بأهلها وتمخضت بخراجها الأقدار
كتبت يد الحدثان في عرضاتها لا أنت أنت ولا الديار ديار
بعد هذه الزيارة التي أثرت في أيما تأثير: لعظم الفقد، وما رأيته وشاهدته من مسح هوية حضارة كاملة كانت على تراب هذه الأرض أكثر من ثمانية قرون متلاحقة، بعدها اتجهت لزيارة الأندلس فكريًا عبر كتاب يقرأ، أو أثر يرُى، أو رواية تروى، أو درس يعطى، فامتدت هذه الزيارة لأكثر من أربعين سنة، وعساها تطول! وتحولت الأندلس إلى هم شاغل طوال هذه الفترة، إِذ أخذت وقتي وحتى في سيري ومسيرتي، فكانت الأندلس قد ظهرت في صورتي وما عانيته في هذه الحياة، وإذا بهذه الصورة تتفاعل مع ما قاله الشاعر العراقي (الزهراوي):
إذا نظرت صورتي تقرأ فيها سيرتي
حتى كأن سيرتي مكتوبة في صورتي
إن الأندلس قد حولتني إلى شاعر ولكن غير شاعر وكاتب، ومن هنا فقد تعلمت بأرض:
أعارتها الحمامة طوقها وكساها حلة ريشه الطاؤوس
إن هذا التعلق قد زاد لجمال ما تركوه، وجودة ما عملوه، ونفاسة ما أنتجوه،
فقد امتلأت الرفوف بكتبهم، وتحدَّثت الأقلام عن حضارتهم الرائعة والرائعة في آن، ولبحث الألسن بجمالهم، وكانوا حديث المجالس في كل أعمالهم، ومن هنا، «فقد قنعت باجتماع الشمل معهم، ولو في الكتاب»، أو كما قال الوزير والشاعر لسان الدين بن الخطيب في إحاطته، أو كما قال صاحب (الريحانة):
فاتني أن أرى الديار بطرفي فلعلي أرى الديار بسمعي
أو: أرضي تلاقي ذكرنا مع ذكرهم في روض طرس بالمعاني أثمرا
إنني عرفت الأندلس عبر هذه الزيارة الفكرية (أرضًا، وأناسًا، وفكرًا) فكانت لي معها صحبة جميلة، ظهر بعضها في نتاج طالب علم، ولي رجاء في الله أن يمد في العمر فأكمل ما بقي، فمنه العون والقوة.

* حبذا لو تقدم لنا فكرة عن كتابك الأول حول الأندلس المادة الأدبية في المصادر التاريخيّة الأندلسيّة؟
- إن هذه العنوان ليس كتابي الأول، بل هو رسالة علمية خرجت فيها عن المألوف في مثل هذه الدراسات، إِذ جمعت فيها بين الجمع والتصنيف والتحقيق والتحقق أيضًا، والدرسين النقدي والأدبي وكذا الدرس اللغوي، فكانت قد منحت لي آفاقًا، بل أبوابًا واسعة دخلت عبرها إلى حديقة غناء، تحوي ألوانًا شتى من المعارف والعلوم والرؤى والأفكار، ولهذا فإن من يقرأ الرسالة سيكون حائرًا في حكمه:
فهي دراسة أدبية، وهي دراسة فكرية، وهي دراسة نقدية، وهي دراسة تاريخية، وهي دراسة موضوعاتية، وهي دراسة بيلوجرافية تصنيفية، إنها كل ذلك، ولأنها كذلك، فقد عانيت فيها كثيرًا من الوصب والصخب والتعب والعنت. فكأن هموم الأندلس قد انتقلت لهذه الأطروحة ولصاحبها الأمر الذي جعله يحتفظ بهذا الهم، بل يحفظه، علّ الأيام تأتي ببارقة أمل تزيله، وقد مرّت الأيام والشهور والسنون حتى هيأ لها الله الخروج بعد أن:
ضاقت من القيود
صدأت القيود،
تكبيل بل ذنوب،
ألأنها دونت قول الشهود؟
ألأنها خرجت خارج الحدود؟
صاحت بأعلى صوتها:
أكل ذلك عن ذنب غير مقصود..
قلت لها صبرًا؛
فقد صبر أهلك خارج الحدود
لنلتقي على فعل الجدود...
إن هذه الرسالة، أو الأطروحة قد نشرت بعد أن بقيت محبوسة لأكثر من ثماني وعشرين سنة بعد أن نوقشت عام 1409هـ ونشرت عبر المجلة العربية وضمن سلسلة كتابها عام 1437هـ في أكثر من 600 صفحة من القطع المتوسط، ولكن بعنوان آخر هو: (الأدب التأريخي في الأندلس) ليتماشى مع المحتوى، وليختصر مع القارئ مسافة التفكير في العنوان ومن ثم المحتوى.
إن كتابي الأول هو: (المجالس الأدبية في الأندلس)، وقد حاز هذا الكتاب على مكانة رفيعة في سماء المكتبة الأندلسية، إِذ كان الأول في بابه، شاملاً في موضوعه، وعلى أثره خرجت عدة رسائل علمية بين ماجستير ودكتوراه لطلاب من المشرق والمغرب من قبل: المجالس الشعرية من الفتح حتى سقوط الخلافة، والمجالس الأدبية في عهد المنصور ابن ابي عامر، والمجالس الأدبية في عهد الطوائف... إلخ ذلك.
إن هذا الكتاب كان منطلقًا لمرحلة التأليف التي عشتها وأعيشها، فعلى إثره خرج أكثر من خمسة عشر كتابًا، وهي كتب ليست لها علاقة بالدكتوراه ولا بالماجستير ولا بهذا الكتاب، وكلها تصب في مصب التخصص، حيث ظهر بعده، الأدب الأندلسي بين حقيقته ومحاولة اغتياله، وأخيرًا كتاب: من النخلة إلى المروة وبينهما أربعة عشر كتابًا.
إن من الجدير ذكره أن هذه الكتب وذلك بفضل الله قد احتلت مكانة رفيعة في سماء المكتبة الأندلسية، بل كانت في معظمها فتحًا لبحوث عديدة من قبل طلبة الدراسات العليا في الماجستير والدكتوراه في جامعات المشرق والمغرب.
* ما سبب الإلحاح المستمر من قِبَل دارسي التراث الأدبي العربي للحديث عن الأندلس (المكان والزمان والحضارة)؟ وما قيمة هذا الآن؟
- الأندلس رمز لحضارة إسلامية رائعة شيدت على تراب أرض بعيدة، ومكملة لما شاده المشارقة، فالتحم البناء وظهرت حضارة عمت الشرق والغرب، قائمة على العلم والمعرفة العلمية، ومن هنا فإن المساهمة الأندلسية قد كانت فاعلة، ولذا فهي حاضرة في عقلية السابق واللاحق، ومن الاستحالة البحث في الحضارة العربية والإسلامية بمعزل عمّا دونه الأندلسيون في مجالات شتى، أقلها البوح عمّا في الذات، وأعلاها ما كتب في التفسير والفقه والبلاغة والنحو والأدب والعمارة والتخطيط، فضلاً عن الفلسفة والطب والفلك والجغرافيا، أما بناء المدن فحدث ولا حرج، وكذا بناء الحدائق والمتنزهات.
إن في كل ذلك مدعاة للاهتمام بهذه الحضارة، ومن ضمنها الأدبيات وما يتعلق بها، ولذا نجد الجامعات في المشرق والمغرب وضمن مناهجها تدرس ما له علاقة بها، بل توجه الطلاب لدرسها والبحث فيها، ولذا فقد كان الإقبال عليها شديدًا، خاصة الدراسات الأدبية، بل النظرية بشكل عام، وذلك من قبل طلاب الدراسات العليا، ولهذا الإقبال فإنه يعز أن تجد موضوعًا لم يبحث فيه وذلك على حد علمي، وما الدراسات التي تظهر هنا أو هناك إلا دلالة على كل ذلك.
إذا الإقبال كان مدعاة للقلق الذي يعيشه الباحثون في الدراسات الأندلسية خصوصًا الجادين منهم، أما من همة تسجيل الموضوع مع غياب المتخصص العارف، فإن الموضوعات ما زالت متوافرة، والواقع ليس كذلك.
* ما رأيك بدراسة الأدب الأندلسي في كليات الآداب، وهل ترى أن الأدب الأندلسي بحاجة إلى توجيه الباحثين في الدراسات العليا الأدبية لدراسته؟
- الذي أعرفه أن الأدب الأندلسي في الجامعات بعضها يضعه ضمن مناهج الأدب القديم وبعضها يضع له مادة باسم تحت: «تاريخ الأدب الأندلسي» وفي المستوى الخامس وهكذا ولكن في الأعم الأغلب يمكنني القول، إنه قد ظلم إِذ لا تتعدى ساعاته الخمس الساعات مع النصوص في الفصل الواحد وهو الوحيد من الفصول.
إن المتوجب - فهو أدب ثمانية قرون- أن تزداد ساعاته فهو أدب ثٌر، ولا غنى لطالب الجامعة عنه، خاصة أولئك الذي يدرسون في كليات الآداب وكليات اللغة العربية وكليات العلوم الإنسانية، وليكن من المفيد أن أقول: إن الأدب الأندلسي يمثل في حقيقته داب العصور كلها مشرقية ومغربية، ففيه روحها من جاهليتها إلى حديثها، حتى إنك ستجد فيه كما قال أحد الباحثين بوح الصعلكة وغناء الجبال والوديان، وعواطف الإنسان في مراحل حياته.
* من النخلة إلى المروة، آخر إصداراتك حول الأدب الأندلسي، ما الذي تريد أن تقدمه للقارئ من خلال هذا الكتاب؟
- كتاب تأريخي أدبي انطلق من عنوان رمزي، فالنخلة تعبر عن رمز للبناء والنماء والعطاء والثبات والشموخ، وهذه البداية على يد الأمير (الداخل)، ثم انطلقت المسيرة على يد الأمراء بعده والخلفاء والحجاب والملوك إلى أن استسلمت الأندلس بعد إحاطة الأعداء بها «إحاطة السوار بالمعصم»، وذلك في عهد أبي عبدالله الصغير آخر ملوك الأندلس، ذلكم الذي حاله كحال الشاعر الذي قال:
ولو أن العتاب يفيد يومًا ملأت مسامع الدنيا عتابًا
وقد وصيتها بالصمت عني فما صمتت، وما قالت صوابًا
إن الكتاب في صفحاته قد تحدث عن جزء من التاريخ بأسلوب تثقيفي فيفيد منه الطالب والمتخصص على حد سواء، وهنا نأتي إلى الرمز الأخير من العنوان فهو (المروة) ليعبر عن النهاية والجمود الذي أصاب التاريخ، تكلم التي وقف عليها (أبوعبدالله الصغير) لينظر من عليها النظرة الأخيرة لبلده، وقد أمر بتسليم مفتاح غرناطة للنصارى...
* بحكم تدريسك للأدب المقارن، ما المعوقات التي تقف دون وصول الأدب العربي والسعودي بشكل خاص إلى العالمية مثل الآداب الأخرى، وما رأيك حول تدريس الأدب المقارن في الكليات الأدبية بالجامعات السعودية؟
- الأدب المقارن مادة مهمة، خاصة في الدراسات العليا، لكنها تحتاج لثراء علمي وثقافي، يستوي في ذلك الاستاذ والطالب، فالاستاذ ينبغي أن يكون مطلعًا، قارئًا، منفتحًا، على الآداب الأخرى، ملمًا باللغات المهمة في هذا المجال خاصة والطالب كذلك، ينبغي أن يكون متقبلاً لهذه المادة بشيء من الشغف ليقف على آداب الآخر، باحثًا عن كل معلومة، متحملاً لكل التكاليف العلمية، إنها مادة علم بحق، ولكن يبدو أن وهجها مع كثير من المواد المهمة الأخرى التي تعطى في الجامعات قد بدأ يخف، بعد توافر المعلومات بوساطة وسائل التواصل والاتصال العالمية، إذا أصبح يقوم بها أي شخص ويدرسها الطالب العادي الذي لا يملك حتى مفاتيح أي لغة من اللغات، فقد توافرت الكتب المترجمة التي تكشف في جزء منها عن أدب الآخر، وعن هذا الحال تقرأ المادة مثل أية مادة أخرى، لا يحتاج لجهد، ولا مزيد عمل، وهذا الأمر مؤسف بحق.
إن انتقاء الجهد والعمل الجاد في العلم يحيلانه إلى مادة محفوظة ليس إلا، وهذا في هذا العلوم النظرية، وعند هذا يتخرج الطالب في الجامعة بلا شيء إلا ما ندر، والنادر لا حكم له، ولأن ذلك ينبئ عن واقع معيش، فإن الجامعات -في الأغلب- ستتنازل عن مكانتها المأمولة، وتخرج طلابًا لا فرق بينهم وبين طلاب الثانوية العامة إلا بزيادة العمر ليس إلا هذا عن (المادة) نفسها؛ أما عن المعوقات التي تقف دون وصول الأدب العربي والسعودي بشكل خاص إلى العالمية مثل الآداب الأخرى..
فأقول أولاً: إنه لا معنى لذكر الأدب السعودي.. ردًا عن الأدب العربي، فهو جزء منه، والأدب المقارن من مهماته الأساس التركيز على الآداب القومية لا المحلية، فعندنا والحالة هذه (الأدب العربي) كأدب قومي يشمل الأدب من الخليج إلى المحيط، إذا هذا هو موضوع الأدب المقارن، وبالتالي فإنه ينبغي أن نسأل:
* هل هناك معوقات تحول دون وصول الأدب العربي إلى العالمية؟
وللإجابة عن هذا السؤال نقول إن من أهم المعوقات في نظري غياب الجامعات في العالم العربي وأقسامها العلمية عن المشاركة، بل العمل على إظهار النتائج الفكري العربي بصورته الحقيقية مترجمًا إلى اللغات الأخرى ليقف عليه الآخرون، وعدم وجود مراكز للترجمة مع التواصل بين هذه المراكز، وعدم وجود الكراسي العلمية التي ينتمي إليها المتخصصون في هذه المادة أو تلك، ويملكون من الكفاءة والقدرة والعلم.
* فلماذا لا نؤسس لهذه الكراسي مثل كرسي الأدب المقارن تحت إشراف الجامعات وكليات الآداب. وعندها فإنه سيفهم ما يدور حوله، بل يطور ويسعى لخدمته علميًا وعمليًا؟
- لكن ينبغي ألا ننسى أن هناك من الأفراد من يقوم بعمل الجامعات والكراسي والترجمة، فإذا بهم يترجمون أعمالهم إلى اللغات الأخرى، ويقف عليها الآخر، وهذا جزء يسير من التواصل، لو احتوته الجامعات وكراسي البحث لكان أجدى وأنفع.
* شاركت في تحرير موسوعة المملكة العربية السعودية من إصدارات مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، ما رأيك بهذه الموسوعة وهل ترى أنها وصلت للقارئ السعودي؟
- هي موسوعة شاملة شارك في إعدادها عدد من الباحثين في هذه البلاد، ولأنني من هؤلاء، فليس من حقي أن أبدي الرأي حولها، ولكنها على أيه حال تمثل جهدًا يوفر للباحثين عن هذه البلاد معلومات عَزً أن يجدوها في أماكن أخرى، وإن وجدوها فهي مبعثرة هنا وهناك.
أما عن وصولها للقارئ فأعتقد أن مثل هذا العمل الموسوعي هو خاص بالباحثين، وليس لعامة الناس كالصحيفة أو المجلة، فالباحث عن العلم سيجدها في المكتبات التي يعتد بها، كما قد يجدها في مراكز البحث الرئيسة، وقد يجدها في مكتبات النوادي إن كانت هذه المكتبات تملك طموحًا لطلبها من مصدرها الأساسي: «مكتبة الملك عبد العزيز العامة بالرياض».
* المجلات الثقافية السعودية، ما رأيك بتجربتها، وماذا تتوقع لها في المستقبل، لا سيما وأن لك خبرة في الاستشارة وتحرير بعض المجلات الثقافية السعودية؟
- لا شك أن المجلات الثقافية السعودية سدّت فراغًا كان الباحث من قبل يعانيه، وبالتالي فقد من يقرأ ويتعلم ويكتب، إِذ كانت قبل العصر الذي نعيشه الآن - عصر شبكات التواصل- بمنزلة الضوء الذي من خلاله ينفذ القارئ إلى العالم الآخر للوقوف عليه ومعرفته.
لقد كان الناس من قبل خاصة من ينشد الحرف، ويبحث في الكلمة، كانوا حريصين على متابعة هذه المجلات (التوباد، الفيصل، العريقة، أقرأ، اليمامة، علم الكتب، العرب، المنهل، الجيل، قافلة الزيت) والمجلات التي تصدرها النوادي الأدبية.
فقد كانت منبرًا للثقافة والتثقيف عند طالب العلم والقارئ، ومن ينشد زيادة اطلاعه وموسوعيته، فقد كانت لها أدوار متميزة، ولكن لتزاحم المعلومة، وتوافرها في هذا العصر الذي نعيشه، فقد أخذ بعضها -ومع الأسف- في الانكفاء، بل إن بعضها قد توقف، وبطبيعة الحال فإن هذا شيء يؤسف له، لأننا في هذه الحال سنفتقد للمعلومة الجادة والمؤثرة خاصة لدى الجيل الذي أخذ عليها قارئًا ومشاركًا وباحثًا.
إن المستقبل ومع الأسف هو مستقبل الثقافة المعلّبة التي تؤتى بضغطة زر، غير محددة المصدر، تأتي من كل مكان ويتداخل فيها الجاهل والمتعلم وهذا في الواقع سيؤدي إلى خلل في الثقافة، وتسطح في المعلومة، وظهور أمية مثقفة، ولكن غير الأمية التي كتب عنها الباحثون أمثال الدكتور يحيى بن جنيد.
* ما رؤيتك لاستشراف المشهد الثقافي والأدبي في المملكة العربية السعودية، خاصة بعد استحداث وزارة الثقافة في ظل رؤية المملكة 2030؟
- كنا من قبل نحلم بوزارة للثقافة، أيام كانت الثقافة ثقافة، بمعنى أنها كانت للخاصة من طلاب العلم وبعض القراء وبعض المتعلمين من خريجي الجامعات، أيام كانت الجامعات جامعات بحق، أما الآن فقد أصبح كل منا يدعي الثقافة حتى البدوي في صحرائه والتهامي في وديانه، بل إن الكل أصبح يقف على المعلومة بغض النظر عن شهادته ومكانته، إذا نحن واقعون فيما قاله القائل:
«إذا أراد الله يقوم سوءًا، ابتلاهم بكثرة الجدل وقلة العمل» فنحن ومع الأسف قد وقعنا في هذا الواقع، نجادل في كل شيء، ونتدخل في كل شيء.، لم يعد الواحد منا يعرف حدوده:
فإذا الجاهل يجادل في السياسة، وإذا هو يجادل في الثقافة، وإذا هو يجادل في العلم..
وعند هذه الحال، وفي خضم هذه الظروف، نشأت وأنشئت وزارة الثقافة التي كنا نتمنى أنها قد أسست من قبل لتحيا في ظروف غير هذه الظروف ولذلك، فإنها ستعاني في معالجة الثقافة وأبوابها مثلما عانى (خراش) مع صيده، كما أنها ستعاني في تحديد:
من هو المثقف؟
وكيف يتعامل معه؟ ومع رؤاه وأفكاره؟
وكيف تحدد هوية الثقافة؟
إن المشهد الثقافي معقد كتعقيد إنسان العصر، ولذا فإن عليها وأمام هذا الواقع أن تسدد وتقارب، وتتعامل مع الثقافة الجديدة بحذر شديد لأنه قد حفل فيها كل من هب ودب. سئل (الحسن بن كهل ت 238هـ) في مجالسه من مجلة عن: (الآداب)، وهو يعيش في عصر التعقيد الثقافي، بل فورة الثقافة أيام الدولة العباسية وأيام الصراعات الفكرية، فما كان منه إلا أن قال: إن مجموع الآداب عشرة: «ثلاثة عربية، وثلاثة شهرجانية، وثلاثة أنوشروانية، وواحدة أربت عليهن فأما العربية، فهي: الشعر والنسب وأيام الناس، وأما الشهرجانية فهي: ضرب العود ولعب الشطرنج ولعب الصولاج، وأما الأنوشروانية، فهي: الطب والهندسة والفروسية». إن هذه الآداب تراوح بين: (الكلام، واللعب، والفن)، ومن هنا فإن النقاد والدارسين قد قسموا الآداب إلى: عامة، وخاصة. إذا وزارة الثقافة ستعاني مثلما عانى (الحسن بن كهل) وهو الوزير والمثقف والأديب وصاحب المكانة عندما سئل هذا السؤال، إِذ أعاد الثقافة إلى الأدب، فجعله شاملاً لكل شيء معتمدًا في ذلك على الفعل المتمثل في التأدب مع كل شيء..
* ماذا تنتظر من الأندية الأدبية في المشهد الثقافي المقبل؟
- أقول بصدق لقد اعتراها ما اعترى المنابر الثقافية الأخرى مثل المجلات والصحف، فقد كان ماضيها القريب أفضل بكثير من حاضرها المعيش، هذا الحاضر الذي فقدت فيه الابهار الثقافي الذي كنا نجده في محاضراتها، ولقاءاتها، ومنشوراتها، كما نجده أيضًا في ضيوفها، إِذ كانت تبدو عليهم هيئة العلماء، وهيبة العلم، أما الآن، فقد افتقدنا كل ذلك أو بعضه، فالحضور لا يتعدى في الأعم الأغلب عدد أصابع اليد، وإن تعدى فبزيادة قليلة، والمحاضرون في الأعم الأغلب يفتقدون الإبهار الثقافي، إلا ما ندر، والنادر لا حكم له، ولذلك نجد أن بعض الأندية الأدبية قد توجهت توجهًا آخر، مثل: عقد الندوات والمؤتمرات الأدبية مثل: «مؤتمر النقد» في نادي الرياض الأدبي، وكذلك عقد اللقاءات الفكرية واستضافة بعض الشخصيات المهمة، مثل الفائزين بجائزة الملك فيصل العالمية، أو الفائزين بجوائز أدبية خارجية، أو استضافة من حقق سبقًا علميًا أو إعلاميًا، وهذا عمل جيد يخرج النادي من بوتقة الهدوء الذي يؤدي إلى الخمول بل إلى الخمود والجمود.
* نظرًا لخبرتكم في التعليم الجامعي، كيف تنظر لتوجهات الجامعات السعودية الجديدة، وهل ترى أنها ستسهم بتطوير البحث العلمي؟
- كثرة الجامعات والقبول المفرط دون تمحيص وتدقيق، وفتح أبواب الدراسات العليا على مصراعيها، وضعف الأداء الوظيفي وعدم التوفيق في اختيار أعضاء هيئة التدريس خاصة في العلوم النظرية، وتحول النظرة العلمية لدى بعض أعضاء التدريس إلى نظرة مادية لا إلى ما ينتج من بحوث، ولا إلى ما يقرأ ويكتب من كتب، ولا إلى ما يفيد الطلاب، زاد ذلك غياب الجمعات عن القضايا الملحة، مثل: الترجمة، وخدمة المجتمع، والمشاركة في الندوات، والمؤتمرات العالمية، والبحث عن كل جديد في ميادين العلم، وتوجه ذلك الاهتمام إلى الاهتمام الشكلي من حيث كثرة الطلاب، وكثرة أعضاء هيئة التدريس، وبناء المباني، وسعة الحدائق، وعدم متابعة أعضاء التدريس علميًا، وعدم الاهتمام بالأساتذة الكبار.
أقول: إن كل ذلك مع ما يجري في عصرنا هذا من عدم طلب العلم الصحيح من قبل الطلاب والبحث عن السند بأقل الأعمال وأقصد بالسند: الشهادة، وعدم وجود الطالب الجاد إلا ما ندر، أن كل ذلك وما سبقه سيؤدي بنا إلى القول: بأن جامعاتنا ستتحول إلى ثانويات عليا إن لم تكن قد تحولت فعليًا، وهذا الأمر ليس عامًا، فهناك جامعات ما زالت تخرج العلماء خاصة في العلوم العلمية وهي كثر مثل الطب والهندسة.
* هل تؤمن بأن الجيل الجديد من الطلاب الجامعيين، يختلفون عن الجيل السابق، وما رسالتك للطالب الجامعي؟
- طلاب الأمس جاءوا للعلم برغبة مع شح في المعلومة، وندرة في المادة المعينة، مع تعال في الاستاذ، ومن هنا فإن الجيل السابق قد فلق الصحراء حتى تعلم، وتحمل التعالى باحترام وتقدير حتى تخرّج، أن العلم عند هذا الجيل كان يمثل مطلبًا أساسًا على الرغم من الحاجة الماسة للمادة لتسهيل مادة العلم، لكن الجامعة وقتذاك كانت جامعة بحق، تعليم قوي، وأستاذ قوي، مع توفير مادة العلم - الكتاب- في مكتبات شيدت على أعلى مستوى، وبقوم بها موظفون أكفاء إِذ يأتون بالكتاب من أي مكان حتى قامت المكتبات، فأصبحت منارات للثقافة وللعلم في آن، بينما طلاب اليوم جاءوا وكل شيء موجود، والمعلومة متوافرة والأساتذة في كل تخصص وفي كل فن وعند هذه الحال أخذ الطلاب في استسهال كل شيء، حتى العلم ونيل الشهادة، والشيء الذي يأتي بسهولة يذهب بسهولة، وهذا هو وضع طالب اليوم، يتخرج بلا شيء، همه الشهادة، ثم يتوظف وهذا هو حد طموحه، وبطبيعة الحال هناك نوادر، ولكن النادر لا حكم له، إنني أقول ذلك من خلال معايشتي للجامعة لأكثر من خمسين سنة طالبًا ثم أستاذًا فيما بعد، فلنا فترة لم نخرج علماء، لأن الطالب القادم للجامعة لا يملك طموحًا يدفعه لنيل الدرجات العليا فيكافح ويدرس ويبحث بصدق، فكل هذا جاء من تقارب ظروف الاستاذ مع ظروف الطلاب ليتنازل أحدهما عن مكانته، ويتساوى مع الآخر، وهنا ضعف العلم وتدنى مستوى المتعلم.
أما رسالتي لطالب اليوم، فعليه أن يختار مكانه ومكانته في هذه الحياة، فالسبل أمامه متاحة، وفرص العلم متعددة ومتلونة..
* كونك متخصصًا باللغة العربية ما رأيك باحتفال المؤسسات المعنية باللغة العربية باليوم العالمي للغة العربية؟
- هو يوم ندندن فيه حول اللغة العربية، نكثر من الكلام حولها، كلام لم يزدها بهاء، ولم ينقصها قيمة، ولكن الحديث عن الشيء يدل على الاهتمام به والتواصل معه، مثله في ذلك مثل الكشف الدوري الذي يأخذ به السليم كي يطمئن، وأنه صحيح من الأعراض التي تهاجم الإنسان فجأة وفي كل حين، ولأن لغتنا في هذا العصر مهددة من الداخل ومن الخارج، فهي أمام تعدد في اللهجات، وقدوم لغات، وهذا قد يدخل في العربية ما ليس منها، ولذلك فإن تعاهدها يعد واجبًا كتعاهد الزرعة، فإذا ما تابعها زارعها بالسقيا، وأزال عنها الأوشاب والأوصال بدت في منظر يبهج الناظرين، وتؤتي أكلها في كل حين، بينما إذا قل الاهتمام وقلت الرعاية تسلقت عليها الشجيرات والتصقت بالأصل وأخذت تتغذى عليه وتضعفه.
إن حال لغتنا في هذه الأيام كحال الزرعة التي ينبغي تعاهدها، ومن هنا، فإنني مع هذه الاحتفالية ولست مع أولئك الذين يقولون إن هذا اليوم هو يوم التباكي والبكاء، بل هو يوم التذكير في عصر أصبحت الذاكرة فيه مزدحمة بمشكلات عدة تجعلها تغفل عمّا ينبغي الاهتمام به.
* المجالس الثقافية أو الصالونات الثقافية التي يعقدها بعض وجهاء المجتمع، ظاهرة ثقافية تشهدها الساحة الاجتماعية السعودية مؤخرًا. ما رأيك بها؟
- هي ظاهرة صحية يقوم بها أشخاص بدافع ذاتي خدمة للثقافة في معناها الشمولي، ولكن تأثيرها في ثقافة البلاد بوجه عام يبقى محدودًا لمحدودية مرتاديها، ولعدم نشاط بعضها في نشر ما يدور في مجالسها، ولأن بعض هذه الصالونات نحت منحى خاصًا يتعلق بالوجاهة الاجتماعية، والثقافة بمعنى الثقافة الحقة، لا تقر بالوجاهة أكثر من اقرارها بالعلم وخدمته ورفع سمعته عاليًا.
* هل تميل لقراءة الرواية، وهل ستكتب رواية؟ خصوصًا في أننا نعيش زمن الرواية كما يقال؟
- الرواية عمل أدبي فذ، لا يحيكه إلا من فركته الحياة وذاق طعم الأدب ومرارته وتسلح بسلاح الثقافة المجتمعية والحياتية، عرفت ذلك عندما قرأت بعض الروايات وبعض كتب النقد، خاصة تلك التي تتعلق بالأدب الحديث. ولأن الرواية كذلك فإن سيلاً من مشاغل الدنيا قد أبعدتني عن كتابتها على الرغم من المقدرة التي أشعر بها - بحمد الله- فعيشي بين الكتب الأدب والنقد سنين عديدة، وقراءاتي لكتب التاريخ والروايات الأدبية والتاريخية، كل ذلك من مسببات أو مهيئات الكتابة، وعسى الأيام القادمة تتيح لي ما أرغبه وأتمناه، خاصة بعد أن فرغت من العمل، والركون مع معاملاتي ورؤاي الذاتية.
* أحب أن تختم الحوار بقضية تحب أن تتحدث عنها. المساحة مفتوحة أمامكم؟
- أختمه بشكر الله أولاً، ثم شكركم وقد أتحتم لي الفرصة اللقاء، والالتقاء بمن سأل ويسأل عني، كما أشكر كل من تحدث عني أو كتب إِذ أخذت من وقته وأراق حبره، للتعبير عن شخصي المتواضع، فلهم ولكم جزيل الشكر والامتنان، وجزاكم الله عني ألف خير.

الجمعة، مايو 04، 2018

الحوار الصحفي الذي أجريته مع الأستاذ الدكتور عبدالله بن سليم الرشيد



الأندية الأدبية انتهت.. وأرفض المشاركة في يوم اللغة العربية 



حاوره - أحمد بن خلف المخيدش الشمري:
* بداية الحوار أسأل عن آخر إصداراتك؟
- آخر الإصدارات تفضل نادي مكة الأدبي بإخراجه، وهو كتاب: «الحدقة والأفق.. دراسات في النثر تليدِهِ وطريفِهِ». ومن فضل الله أنه فاز بجائزة وزارة الثقافة والإعلام العام الماضي 1438هـ، ثم صدر أيضاً في وقت مقارب تحقيقي لكتاب: «جواهر الكلم وفرائد الحكم» المنسوب لعلي بن عبيدة الريحاني عن كرسي الدكتور عبدالعزيز المانع. أما آخر الإصدارات الشعرية فهو ديوان: «قنديل حذام» الذي صدر عن نادي جدة الثقافي الأدبي قبل سنتين. وقبل أسابيع صدر عن نادي الطائف الأدبي كتاب بعنوان: «خُصاص كَرْم.. دراسات في شعر مغمورين من عصور شتى»، جمعت فيه بحوثي المتصلة بدراسات شعر المغمورين.
* بالإشارة إلى حصول كتابكم: «الحدقة والأفق» على جائزة وزارة الثقافة والإعلام، ما رأيكم بدور الوزارة والجوائز الأدبية في تكريم بعض الأدباء والمثقفين؟ هل أسهمت في نشاط الحركة الأدبية والثقافية بالمملكة العربية السعودية؟
- لا أشك في هذا. الحقيقة إن الجوائز - ولاسيما من جهات حكومية، مثل الوزارة التي تهيمن وتشرف على المشهد الثقافي بالمملكة - هي حافزة على تشجيع التأليف الجاد؛ فهذه الجائزة وما ماثلها من جوائز، مثل: جائزة الملك فيصل العالمية، وجائزة الملك سلمان لدراسات تاريخ الجزيرة العربية، وجائزة الدارة، وجائزة كتاب العام في النادي الأدبي بالرياض، وجائزة نادي جدة الأدبي.. كلها حافز على الإنتاج الجاد. ينبغي أن نعترف بهذا، لكن المثقفين والأدباء يطمحون إلى أن تكون الجوائز أكثر من ذلك، وأن تكون ذات فئات، ومتخصصة: دراسات في الأدب، والتاريخ، والجغرافيا، والعلوم التجريبية كالطب والهندسة.. نطمح إلى أن يكون الحراك الثقافي أوسع وأشمل؛ لأننا وجدنا نتائج هذه الجوائز فيما قُدم من دراسات قيمة جدًّا.
* البعض يشير إلى أن بعض الجوائز تُمنح بناء على علاقات شخصية مع اللجان المشرفة، ما رأيك؟ وهل لوضع المعايير العلمية الدقيقة أثر في تنحية المعايير غير العلمية؟
- أنا معك في ذلك. لا أتكلم عن الجوائز كلها، ولكن من خلال تجربتي في التحكيم لبعض الجهات رأيت أنه يُحتَكم في اختيار الفائزين إلى معايير غير علمية، معايير متصلة بعلاقات شخصية، ومعايير لترجيح كفة تيار أدبي على تيار أدبي آخر.
* المتابع لمؤلفاتكم ولحسابكم على التويتر يلاحظ أنك تعنى كثيرًا بقضية الاهتمام باللغة العربية الفصحى، ومشاكل اللغة العامية.. ما موقفك من هذه القضية؟
- اللغة هوية عند كل الأمم، وهي جزء من المنظومة الثقافية؛ فالتنازل عن اللغة تنازل عن الهوية والثقافة. وبالنظر إلى الأشخاص أنفسهم يمكن أن نقول إن اللغة هي مظهرك الشخصي، هي كاللباس، اللغة لباس.. وبلا شك فإن اللباس يُعنى به، ويهتم بجماله ونظافته.. فأنا أعتني باللغة من هذين الجانبين: الجانب العام أنها هوية وحصن من حصون الأمة؛ فإذا سقط هذا الحصن أو تهاوى سقطت الأمة في التبعية والاغتراب عن نفسها، والتقليد، وامحا الذات، وأمور كثيرة رأينا عقابيلها فيما يظهر الآن في التعليم، والإعلام، وفي ثقافة الشباب.. كل هذا من آثار التفريط باللغة. وأعتني بها من الناحية الشخصية في كتابتي، وأنصح الناس بأن يعنوا في كتابتهم. هذا منطلقي في العناية باللغة. وبالمناسبة، لست وحيدًا في هذا الجانب؛ أنا ضمن تيار يدافع عن اللغة، ويرى أنها من حصوننا التي إذا سقطت فإن الأمة تسقط شخصيتها في جوانب أخرى.
* تحتفل المؤسسات المعنية باللغة العربية باليوم العالمي للغة العربية، ما موقفك من هذه القضية؟ وهل أنت مع الاحتفالات الخطابية؟ وهل تدعو إلى اتخاذ مبادرات فعلية؟
- أنا سُئلت هذا السؤال مرارًا، وقلت إنني أرفض المشاركة في الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية؛ لأن الحفلات التي تقام هي حفلات تغزل رخيص؛ فقد أصبحت اللغة كأنها فتاة حسناء، نقف تجاهها ونقول: ما أجملها، ما أحسنها! يا لجمال عينيها! وما أحلى شعرها! ثم نتركها لقدرها فتُغتصب، وتسبى، وتعذب.. ونظلّ نحن نتغزّل بها! ما أسهل أن نقيم بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية ندوة عنها، لا يحضرها إلا المتخصصون والمتحمسون لها، وهي في الوقت نفسه تظلم في التجارة والإعلام، وتُسب وتُشتم في وسائل التواصل الاجتماعي، ويجهلها أبناؤها، بل وصلنا إلى مرحلة خطيرة جدًّا، هي أن يعاديها بعض أبنائها!!
المستشرقون الذين نفخوا في نار العداء للغة العربية منذ نحو مئتي سنة، مثل ولكوكسوولمر وسبيتا، والمستغربون مثل سلامة موسى ولويس عوض وسعيد عقل، الذين صاروا يشتمون اللغة العربية - مع أنهم يكتبون بها - هؤلاء وصلت ثمارهم الخبيثة إلى مرحلة لم يكونوا يطمحون إليها.. هم كانوا يطمحون إلى أن تُنحى اللغة العربية فتُجعل لغة مقدسة مثل اللغة اللاتينية التي يُقرأ بها الإنجيل، ولكننا وصلنا إلى مرحلة أشد قسوة؛ فبعض أبناء اللغة العربية هم من يحاربها. الآن أنت ترى في التجارة التسمية بغير العربية، تجد الفواتير بغير العربية، بل تجد مؤسسات حكومية اجتماعاتها تعقد بالإنجليزية.. وصلنا إلى مرحلة خطيرة في عداء العربية.
إن أردنا الاحتفاء بلغتنا فلنجعلها لسان التجارة والإعلام والإعلان، ولنُعد لها هيبتها في المقررات المدرسية، ولنعاقب من يستهين بها، أو يتحايل على القوانين المسنونة لحمايتها.
* في معرض اهتماماتك باللغة العربية واللهجات العامية نجدك أقل حدة في نقد التحدث مشافهة بالعامية..
العامية شر لا بد منه، في حياتك العامة، في الشارع، والبيت، والسوق.. كلامك العادي مع أي إنسان يمكن أن تتكلم بالعامية لا بأس بهذا؛ فهي تواصلية نفعية في المقام الأول؛ فأنا لا أرى إشكالاً فيها إذا بقيت في إطارها الشفوي؛ فلست أرى منها خطرًا كبيرًا على اللغة. نعم هي تؤثّر في اللسان حين يستكين إليها؛ فيضعف نطقك بالفصحى وفهمك إياها إذا لم تتكلم إلا بالعامية. ولكن الخطر كل الخطر هو بنقل العامية من كونها شفوية إلى أن تصبح مكتوبة، وتصبح لغة تدوين وثقافة، وتُمجد، ويُنفخ في نارها، وتقام للشعر العامي مسابقات وندوات ومؤسسات.
الحقيقة إن التعليم في أساسه هو لرفع الجهل، ولا يكون ذلك إلا بتعلم اللغة الفصيحة التي يمكن أن تقرأ بها القرآن، وتتلقى علوم الشريعة والتراث والإنتاج الفصيح.. فإذا كنت تدون بالعامية فأنت تهدم التعليم، وإذا كنت تنفخ في نار العامية فأنت تهدم التعليم والثقافة.. والعامية تعجز عن أن تكون لغة علم ولغة ثقافة، ثم إنها - أي العامية - تزيد العرب تفككًا. هَبْ أننا شجعنا ومجدنا إحدى اللهجات، فهل يقبل الناطقون باللهجات الأخرى تنحية لهجاتهم؟ أي منحدر خطير سوف يصل إليه العرب إذا وصلوا إلى التعليم والتدوين بالعامية؟! وبالمناسبة، ظهرت بدعة سيئة جدًّا في السنوات الأخيرة، هي تعريب أفلام الأطفال باللهجات (المصرية والنجدية والخليجية...)!
* الدراسات الأدبية الأخيرة التي أنجزتها كـ «تنورتها من أذرعات» و»الحدقة والأفق»، ما الذي تريد أن تقدمه للقارئ من خلال هذين الكتابين؟ وما سر الإبداع الفني في صياغة عناوينك؟
كتاب «تنورتها من أذرعات» هو في الشعر، وكتاب «الحدقة والأفق» في النثر، وفيهما جمعت الأشباه والنظائر. وما فيهما ليس من البحوث التي لا يفهمها إلا المتخصصون؛ فدراستي لـ(المقصورات) - مثلاً - يمكن أن يقرأها أي متخصص بالنحو والتاريخ والجغرافيا، وكذلك دراستي للخبرين المنقولين عن عيسى بن عمر اللذين استنبطت منهما أنه كان مصابًا بنقص السكر في الدم! فلذلك لا أخاطب بالكتابين المتخصصين فحسب؛ إذْ أكثر ما فيهما يمكن أن يفهمه غير المتخصص؛ إذ ليس معمقًا ولا وصعبًا؛ ذلك أنني أميل دائمًا إلى الاقتراب من المتلقي.
أما العنوان فقد نحوت في إصداراتي الأخيرة إلى أن أجعل في العناوين شيئًا من الشعرية ومن الغموض الشفيف تاركًا العناوين المباشرة. وفي كتاب «تنورتها من أذرعات» اقتبست جملة العنوان من معلقة امرئ القيس مشيرًا إلى أني نظرت إليها من بُعد لأجل أن أُلمِح إلى أن ما قدمته من هذه البحوث هو مقاربة لتلك القضايا وليس غوصًا فيها، ولا معرفة عميقة بها؛ لأنه يصعب علي هذا. والباحث الذي يحترم عمله ومتلقيه يعلم أنه يصعب عليه أن يحيط بكل شيء. أما الكتاب الآخر «الحدقة والأفق» ففيه أشرت إلى أنني وسمته بذلك؛ لأنبه إلى اتساع الموضوع؛ فالأفق واسع، والحدقة لا يمكن أن تدرك كل هذا الأفق؛ فأنا أقدم بحوثي ورؤاي النقدية في هذا النثر وأنا مدرك ضعفي عن استيعاب الموضوعات؛ لأن المادة العلمية واسعة، ولأن المدونة وإن قلّت قد يضعف الباحث عن استيعاب كل ما يمكن قوله فيها، وربما مرّ ببعض قضاياها مرورًا عابرًا عجزًا أو غفلة.
* لماذا لا يساير النقد حركة الإبداع السعودي، وأغلب نقد الإبداع السعودي يأتي من نقاد غير سعوديين؟
- حقًّا، النقد لا يساير الإبداع السعودي، وكثير من الدراسات المسايرة للإبداع السعودي تأتي في رسائل علمية ضعيفة أحيانًا، يكتبها طلاب مبتدئون في دراساتهم العليا، فيأتون بكلام عام لا يمكن أن يدخل في النقد الأدبي بمفهومه الصحيح. والمشهد النقدي بشكل عام مقصّر، والنقاد السعوديون الذين ننتظر منهم مسايرة الإبداع السعودي مقصرون، ولاسيما من كان عملهم نقديًا بحتًا، بمعنى من كان عملهم النقد، وليس ممن شغلهم الإبداع والنقد، كأن يكون شاعرًا وناقدًا، فهذا قد تعذره؛ لأن الإبداع يزاحم ما عداه، والإبداع في الغالب يطرد النقد ويضعفه.
أما الدراسات النقدية التي ينجزها غير السعوديين فأنا سيئ الظن بأغلبها. ومن خلال المتابعة رأيت أن أكثر هذا النقد نتاج صداقات ومجاملات، وبعضها يكون مدفوع الثمن، وغالبًا تكون دراسات سطحية، وللأسف تُدرَج في الدراسات التي أنجزت، فينقد الأدب السعودي. وقد كتبت مقالة قديمة بعنوان: «المتاجرون بأدبنا»، تحدثت فيها عن الموضوع، وقصدتُ التنبيه إلى خطورة الاحتفاء بذلك الخِداج، وأستثني من ذلك نتاج أساتذة كبار، عنوا بنقد الأدب السعودي نقدًا علميًّا مثل طه حسين، وبكري شيخ أمين، وبدوي طبانة، ومحمد الشنطي.. وغيرهم.
* ما موقفك من شعر التفعيلة، والشعر العمودي الذي تسميه الشعر التناظري؟
- موقفي بأن القصيدة التناظرية «العمودية» هي البنية الموروثة الأم التي لا يمكن أن تتزحزح، وهي باقية من خلال ما رأيت في متابعتي لتاريخ الشعر العربي، مهما سخروا وحاولوا التقليل منها. أما شعر التفعيلة فهو ابن شرعي للقصيدة العربية؛ لأنه تفعيلة، ولكنه أعطى لنفسه الحرية في الامتداد والانقباض. أما ما عداه من الأشكال الحديثة فليس من الشعر، ومنه ما يسمى (الشعر المنثور أو قصيدة النثر)، ولا يعني ذلك ذمه ولا انتقاص أهله؛ فبعضه فن راقٍ جميل، لكن لا يطلق عليه شعر. الإيقاع والبحور جزء أصيل في الشعر، وليست الشعرية المعيار في دخول هذا الفن في مجال الشعر؛ فالرواية والقصة والخواطر المليئة بالشعرية لا تسمى شعرًا. الأجناس الأدبية لها حدود وقواعد وأركان.. نعم قد تتداخل، لكنها تتمايز، ولولا التمايز لما استمتعنا بها.
* هل تميل لقراءة الرواية؟ وهل ستكتب رواية؟ ولاسيما أننا نعيش زمن الرواية كما يقال؟
- لست ميالاً لقراءة الروايات، وما قرأت من الروايات قليل جدًا. وقد كدت أتخصص في الرواية في مرحلة التخصص (الماجستير)؛ إذ قدمت مشروعًا عن (قضايا الإنسان في روايات نجيب محفوظ) بعد أن قرأت كثيرًا من رواياته. والحمد لله أنني لم أتخصص في النقد الروائي، ليس لأني أستصغر النقد الروائي، لكني لا أحبه، ولا يستميلني. أحب الشعر ونقده أكثر مما عداه.
ولا أظن أنني سأكتب رواية؛ لأنني لا أميل لها. وبمناسبة سؤالك أقول: الرواية فن عظيم، استسهله كثيرون. والنقد الروائي نقد عظيم، استسهله كثيرون أيضًا.
ربما نكون في زمن الرواية، ولكن لن يستغنى الإنسان عن الشعر.
* ما موقفك من قضية الأدب الإسلامي؟
- لا أوافق على مصطلح أدب إسلامي؛ لأنه بني على افتراض خاطئ، وهو أن الفكرة الإسلامية يمكن أن يسايرها إبداع فني مستقل متصل بالإسلام. والحقيقة إن الأدب لا يسمى أدبًا بالنظر إلى مضمونه، بل بالنظر إلى شكله وقالبه. والشكل والقالب ليس لهما انتماء، هما محايدان، كالورقة التي لا توصف بأنها إسلامية، لكن إذا كُتب فيها آيات من كتاب الله صارت ورقة تشرّفها وتحترمها، وإن كُتب فيها شتائم تمزقها، ليس لذات الورقة لكن لشرف ما كتب فيها أو لسفُوله؛ لذلك أرى أن النقاد العرب القدامى كانوا أرحب صدرًا؛ إذْ كانوا يقبلون الأدب كله، وإذا وجدوا ما يخالف القيم الإسلامية أشاروا إليه؛ لذلك رووا شعر النصارى، حتى إن ابن قتيبة - وهو رأس أهل السنة في زمانه - ذكر الأخطل، واختار شعرًا له في هجاء المسلمين! فهنا اعتراف بشاعريته ورحابة صدره لسماع ما قال، وليس كما يفعل الذين يدعون إلى الأدب الإسلامي الذين يرفضون أي شعر غير منتمٍ لرابطة الأدب الإسلامي، أو يقبلونه على مضض، ولا يسمونه شعرًا إسلاميًّا.
وكذلك لا يمكن أن يكون ما يسمونه النقد الإسلامي مستقلاً وذا شخصية ومنهجية مختلفة، بل هو جزء من مناهج النقد المضموني أو الخلقي والديني، وهو موجود عند القدماء؛ فقضية الأدب الإسلامي مع كثرة الدراسات والمنتمين إليها لم تستطع أن تقنعنا بوجود نظرية نقدية يمكن أن يعول عليها.
* قبل فترة أُنشئ المجلس الأعلى للثقافة المتعلق بتحقيق رؤية المملكة 2030، ما رؤيتك لاستشراف المشهد الثقافي والأدبي في المملكة العربية السعودية؟
- أنا متفائل إذا تمايزت الأمور، ولم تتداخل الصلاحيات؛ فالتفاؤل هو سيد الموقف، لكن نطمح إلى أن يكون أمام هيئة الثقافة خطط مرسومة لتشجيع الثقافة ودعم الحركة الثقافية بعامة، وألا نكتفي بالقشور.. فمثلاً، قضية المهرجانات والندوات والمؤتمرات التي ليس وراءها كثير من الفائدة للمجتمع وثقافته آمل أن نتخفف منها؛ لأنها في الغالب تكون ذات ضجيج إعلامي، ولا محصل من ورائها.
الثقافة الحقيقية هي الثقافة التي ترتفع بالمجتمع، وتدله على الطريق الصحيح في اكتساب المعرفة، وتوظيف المعرفة، وفي التلاقح الثقافي، وتقبّل الرأي الآخر، وفي أشياء كثيرة نطمح إلى أن تتحقق بإنشاء الهيئة.
* ما رأيك في دور الأندية الأدبية في المشهد الثقافي القادم إن شاء الله؟
- الأندية الأدبية يبدو لي أنها استُنفدت، أو انتهى تاريخ صلاحيتها. المفترض الآن أن نتوسع، ونحوّلها إلى مراكز ثقافية. لا ينكر أحد أثر الأندية فهي قدمت الكثير، وأثارت النقاش، وخدمت ونظمت ملتقيات، ولكن - كما قلت - انتهت صلاحيتها. المفترض الآن أن نطورها إلى المراكز الثقافية؛ فتجمع الأديب والمؤرخ والجغرافي وأصحاب الرسم والفن التشكيلي وغيرهم، وتوضع لها خطط أوسع وأكبر مما نراه الآن للأندية الأدبية.
* نشهد في الساحة الاجتماعية السعودية مؤخرًا ظهور المجالس الثقافية أو الصالونات الثقافية التي يعقدها بعض وجهاء المجتمع. ما رأيك بها؟
-من مظاهر عافية المجتمع أن تكثر فيه هذه الندوات. وهي مبهجة عندما ترى أن فلانًا من الوجهاء، يفتح بابه لا لشيء إلا ليجتمع أهل العلم والأدب والثقافة والفكر، ويتبادلون الآراء الفكرية والأدبية. أرى أنها من كبرى مظاهر الاهتمام بالثقافة والأدب في المجتمع، وهي من مظاهر نهضة المجتمع، وينبغي أن تشجَّع.
* هل لغياب المؤسسات الرسمية، كالأندية الأدبية، أثر في ظهور الصالونات الثقافية؟
- لا، الأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والجامعات تقوم بدورها، ولكن العبء كبير، فإذا تقاسمه المجتمع مع الهيئات والمؤسسات زاد أثره؛ لأن النادي لا يعرف موقعه كل أحد، ولا يستطيع الجميع الوصول إليه. وقد لا يريد الجميع الذهاب إليه للطابع الرسمي الذي قد يؤخذ عن هذه المؤسسات. أما الصالونات الثقافية ففيها أريحية وبُعد عن الكلفة الرسمية.
* أحب أن تختم الحوار بقضية تحب أن تتحدث عنها. المساحة مفتوحة أمامكم..
بحكم اهتمامي بالبحث العلمي وتدريسي للمقررات في الدراسات العليا أرجو أن تولي وزارة التعليم البحث العلمي ما يستحقه من عناية ومتابعة دقيقة؛ لأن مجتمع البحث العلمي بدأ يتسرب إليه الفساد، في التساهل في قبول كل من هب ودب في الدراسات العليا، وفي ضعف التمحيص للرسائل العلمية، وفي دخول المجاملات في تشكيل لجان المناقشات، وفي تقدير الدرجات في الرسائل المناقَشَة، وفي التغاضي عن الأخطاء والسرقات العلمية ومحاولة دفنها..

الأديب الملتزم بالدقة!

  في قاعة دراسة مقرر الأدب السعودي التقيت بأستاذي الدكتور محمد القسومي، كان يحدثنا عن بدايات الأدب السعودي ومراحله التاريخية وبيئاته، ومن خل...